والإشكال هنا يأتي من أن الإنسان لو فنيت إرادته فعلاً، ولكن أعضاءه لا تعمل إلا في طاعة الله؛ فهل يكون هذا له من الأجر والفضيلة مثل أجر الذي يعمل الطاعات بإرادته؟
الجواب: لا، لكنهم يظنون أن هذا غاية أو أنه مرتبة زائدة، وهذا ليس بصحيح، وقد قال بعضهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره             مني ففعلي كله طاعات
وعلى قول من يؤوله فإنه يقول: المقصود: أن إرادته لا تأثير لها، ولذلك لما سئل الجنيد : [ما الإرادة؟ قال: ترك الإرادة، قالوا: وما هي الحيلة؟ قال: ترك الحيلة]، فكيف يترك الإنسان إرادته؟! قالوا: يفنى، بحيث إن الأعضاء والجوارح تتحرك، ولكن ليس له فيها إرادة، فنقول: إذا كان كذلك فقد جن، أو خبل، أو مرض، أو فيه حالة من الحالات غير الطبيبعية، ولنفرض أنه ليس بجنون ولا مرض، وقرأ القرآن مثلا فاشتدت عليه معاني هذه الآيات العظيمة حتى أصبح يتحرك ويتصرف ولا يدري عن نفسه؛ فإننا نقول: إن هذا الرجل غاية ما يقال عنه: إنه معذور، وأفضل منه المأجور، وهو من كان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقد كانوا يبكون ويخشعون، لكن بإرادتهم، ففعل هؤلاء مرتبته أقل من مرتبة النبي وصحابته، فهم في أعلى الدرجات في كل خير وفضل، ولا يشك في ذلك عاقل.
وكثير من الناس يتصورون أن الذي يسمع الآية فيغمى عليه أن حاله أفضل من ذلك الذي يسمعها فيكون قلبه كالمرجل الذي يغلي، وهذا غير صحيح، فالآخر أفضل، فقوة التأثر عندك مثل قوة التأثر عند الآخر؛ ولكنه ملك نفسه ولم يسقط، فهو أقوى عزيمة، وأقوى إرادة.
فـالصوفية يقولون: إن مقام الفناء والمحو هو الغاية، وليس وراءه عندهم غاية، وهو أن يكون قائماً بإقامة الله له، محباً بمحبته له، ناظراً بنظره له؛ من غير أن تبقى معه بقية تناط باسم، أو تقف على رسم، أو تتعلق بأمر، أو توصف بوصف. وهذا الكلام الأخير فيه عدة مشاكل، والأول كان قريباً من كلام السلف، لكن أن يفني نفسه، ويفني رسمه، ويفني ذاته؛ فلا يمكن هذا، ولو حصل ذلك -وإن أطاع- فهو ليس في درجة من أطاع بكامل إرادته.